حقيقة زيادة الإيمان ونقصانه وكونه قولاً وعملاً
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:فقد سبق النقل فيما مضى عن الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله في الاستدلال على فهم السلف الصالح لحقيقة الإيمان، وهنا سنذكر النقل الثاني عن إمام آخر من أئمة السلف، وهو إمام محدث، هو الإمام هشام بن عمار ، وهو مقرئ الشام ومحدثها في زمانه، وشيخ الإمام البخاري رحمه الله تعالى، المتوفى سنة (245هـ)، وكونه عاش في هذه المرحلة معناه أنه من المعاصرين للإمام أحمد ، وهو ممن تتلمذ على الإمام مالك رضي الله عنهم أجمعين، وقد بسط سيرته الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في سير أعلام النبلاء في الجزء الحادي عشر. وهو -كما أشرنا- معاصر للإمام أحمد ، أي أنه أدرك ظهور فتنة الإرجاء والخوارج والبدع والضلالات في الإيمان، ومن ثم تكلم وعبر عن فهم أهل السنة لهذه المسألة العظيمة كما في كتاب الحجة في بيان المحجة لـأبي القاسم الأصبهاني ، وهذا الكتاب مخطوط من المخطوطات القيمة العظيمة، والإمام أبو القاسم الأصبهاني كان يلقب بقوام السنة، وهو من أهل السنة المؤلفين المعروفين، فجزاه الله خيراً عن السنة والعقيدة وأهلها. فمن النقول التي أوردها رحمه الله النقل القيم عن الإمام هشام بن عمار الشامي ، يقول فيه: (ومما يبين لأهل العقل أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث)، فالإمام هشام يخاطب أهل العقل والنظر والتأمل والتدبر بأن (مما يبين أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص) -كما عرفه وأجمع على ذلك السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم- هذه الأحاديث التي يذكرها، وبعضها آثار، لكن مجموع هذه الأحاديث يدلنا على أمر، هو أن الإيمان حقيقة مركبة من أجزاء، وليست شيئاً واحداً كما سبق أن بينا. فالذي يعتقد أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص هم الخوارج والمعتزلة من جهة، وكذلك المرجئة من جهة أخرى، وقد وقع كلا الفريقين في الضلال المبين بسبب هذا؛ لأن الخوارج و المعتزلة قالوا: إذا ارتكب العبد محرماً أو ترك واجباً ذهب إيمانه كله؛ لأنهم يرون أن الإيمان شيء واحد لا يتبعض ولا يتركب ولا يتعدد. والمرجئة قالوا: مهما ارتكب من المحرمات أو ترك من الواجبات فإيمانه كامل أيضاً؛ لأنه شيء واحد ولا يذهب. أما أهل السنة والجماعة فقد جمعوا بين المنقول والمعقول، وهذا ما يريد الإمام هشام بن عمار أن يوضحه، فالأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على خلاف ذلك، فهي تدل على أن الإيمان حقيقة مركبة مجتمعة من أمور، وهذه الأمور يمكن أن توصف بأنها شعب وبأنها أركان وبأنها دعائم وبأنها خلال وبأنها خصال وبأنها فروع إلى آخر ذلك، فهذه الأحاديث التي فيها ذكر صفات الإيمان تدل على ذلك، وبعضها محفوظ ومعروف. فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( الحياء شعبة من الإيمان )، يشير بذلك إلى الحديث الصحيح، وهو: ( الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة )، وفي رواية للإمام أحمد: ( باباً ) بدل (شعبة) ( فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان ).إذاً: الإيمان شعب، وكونه شعباً يخالف وينافي أن يكون شيئاً واحداً لا يزيد ولا ينقص، وقد أوضحنا فيما مضى دلالة هذا الحديث على الإيمان وزيادته ونقصانه وأنه قول وعمل من خلال بيان هذه الثلاثة الأمور المذكورة في الحديث، فشهادة أن لا إله إلا الله مثال للأركان، وهي الركن الأول والأساس. وإماطة الأذى عن الطريق مثال للكمالات المستحبات، والحياء مثال للواجبات، وهو واجب باطني ينتج عنه واجبات ظاهرة، فكل من أطاع الله تبارك وتعالى وكل من ترك ما حرم الله فإنما فعل ذلك حياءً من الله، وكل من ترك واجباً من الواجبات أو ارتكب محرماً من المحرمات إنما فعل ذلك -بلا ريب- لفقده الحياء من الله مطلقاً.